فصل: سقوط دولة الخوارج في الجزائر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية **


 القسم الثالث ‏:‏ دول مغربية تسقط

سقوط الأغالبة في تونس

سقوط دولة الخوارج في الجزائر

غروب الأدارسة في المغرب الأقصى

سقوط صقلية الإسلامية

سقوط المرابطين بالمغرب

سقوط دولة صنهاجة في تونس

سقوط بني حماد في الجزائر

والموحدون ‏.‏‏.‏ يسقطون

 سقوط الأغالبة في تونس

الحركات الانفصالية في العالم الإسلامي ارتكزت على عديد من الأسس المتباينة ، وجنحت كل منها إلى حجة تعطيها مشروعية الوجود والبقاء ، فبعضها قد التمس السبب في الانفصال من نزعة سياسية ، وبعضها قد التمسه من نزعة مذهبية ، وبعضها قد التمسه من نزعة قومية ، وبعضها قد التمسه من ‏(‏ ضعف الخلافة ‏)‏ ‏.‏

ولم نجد في تاريخ هذه الحركات ذلك الشجاع الصريح الذي يعلن أن رغبته في الانفصال ترجع إلى سبب حقيقي واحد هو الرغبة في الوصول إلى السلطة ‏.‏‏.‏ وتملك الحكم ‏.‏‏.‏ والمجد الأدبي والمالي ‏.‏

وفي فترة متقاربة بدأت الحركات الانفصالية تظهر في العالم الإسلامي ، وكأنها خصيصة جديدة من خصائص التطور التاريخي لهذه الفترة ، فالأندلس انقسمت عن الخلافة العباسية بقيادة عبد الرحمن الداخل ‏(‏ صقر قريش ‏)‏ ومثلت بوجودها آخر ومضة من ومضات وجود بني أمية ، وظلت باقية ثلاثة قرون تمثل هذه الومضة ، وانقسم بنو طاهر في خراسان انقساما تبعوا فيه دولة الخلافة العباسية عكس بني أمية في الأندلس ، وانقسم في مصر ابن طولون في تاريخ قريب من هذا ‏.‏

وكان لا بد للمغرب العربي ، وهو الأرض الواقعة كجسر تاريخي بين الامتداد العقائدي الذي وصل إلى مشارف باريس وبدأ ينحسر بعد موقعة بلاط الشهداء و استشهاد عبد الرحمن الغافقي ‏.‏‏.‏ بينه وبين مركز الإسلام الأصيل ومهبط الوحي وأرض العرب أن تظهر فيه هذه الظاهرة ‏.‏

والحق أن الحركات الانفصالية في المغرب العربي كانت تملك المبرر في الانفصال ، فإن عمال بني أمية كانوا قد أساءوا السيرة فيهم وعاملوهم ‏"‏ كبربر ‏"‏ أي كمواطنين من الدرجة الثانية ، كما أن أهل العراق بكل ما أثير بينهم من جدل كلامي وفتن عقائدية ‏.‏‏.‏ قد حملوا هذا الجدل وهذه الفتنة إليهم وحرضوهم على خلفاء بني أمية ، وولدوا فيهم الرغبة في الانفصال ‏.‏ وعلى مشارف القرن الثالث الهجري كانت هناك دول ثلاث منفصلة تحكم المغرب العربي ولا تخضع للخلافة العباسية إلا اسما ‏.‏‏.‏ وهي ‏:‏ الأدارسة والأغالبة والرستميون ‏.‏‏.‏ وكانت هذه الدول بوضعها ذاك تمثل الأرض القابلة لأي امتداد طموحي ‏.‏‏.‏ ووجد فيها الفاطميون فيما بعد الأرض الصالحة لغرس بذورهم ‏.‏

وكانت دولة الأغالبة التي قامت في تونس سنة 184 هـ أبرز الدول الانفصالية في المغرب العربي ‏.‏

وكان مؤسسها إبراهيم بن الأغلب الذي أرسله الخليفة العباسي هارون الرشيد لخلق الاستقرار في المغرب العربي في ظل حماية العباسيين ، يتمتع بقدر كبير من الشجاعة والذكاء ، وقد اتخذ إبراهيم مدينة القيروان عاصمة له ، وبعد وفاته سار بنو الأغلب على منواله في توطيد أمن المغرب وتقوية أسطوله وجيشه وتنمية موارده ‏.‏

وكان أبرز ما قدمه الأغالبة للإسلام هو فتحهم لصقلية وضمها إلى أرض الإسلام ، بقيادة قائدهم أسد بن الفرات في عهد أميرهم زيادة الله بن إبراهيم الأغلب ، الذي تولى الحكم سنة 201 هـ ، كما أنهم تقدموا فاستولوا على جنوب إيطاليا ، ويقال ‏:‏ إنهم واصلوا زحفهم حتى دقوا أبواب روما ‏.‏

وقد ازدهرت الحركة الاقتصادية والعمرانية في أفريقيا التونسية على عهدهم ، كما أن الأمن قد ساد البلاد وأصبحت تونس ـ على الجملة ـ عامرة مزدهرة ازدهارا عظيما ‏.‏‏.‏ وقد أسسوا بالقيروان عدة مساجد لعبت دورا كبيرا في تدعيم الحضارة الإسلامية ، ومن أبرزها جامع الزيتونة الذي أصبح في المغرب كالأزهر في الشرق ولعب دورا مهما في الحياة العلمية الإسلامية ‏.‏

وقد اشتهر بعض ملوك الأغالبة بالقسوة الشديدة ، وكان سفك الدماء عندهم أسهل من شرب الماء ، ولعل هذا من أبرز ما أخذ عليهم ، وقد مد من عمرهم في المغرب انصراف الخلافة العباسية إلى مشكلاتها المشرقية ‏.‏‏.‏ وعدم قطعهم لكل أواصر المودة مع الخلافة العباسية ، وبالتالي رضيت الخلافة في ظل ظروفها بالقدر الذي يدينون به بالطاعة لها ‏.‏ كما أسكتها انتصارات الأغالبة في معارك الجهاد ضد الصليبيين في أوروبا والساحل الجنوبي الأوروبي وجزر البحر الأبيض المتوسط ‏.‏

هذا كله قد غفر لهم بعض أخطائهم وجعلهم يعيشون أكثر من قرن من الزمان يحكمون تونس وملحقاتها ، ويحكمون صقلية ويفرضون هيبتهم على الدول الأوروبية ‏.‏

لكن الدول الانفصالية لا يمكن أن تقف أمام الحضارات الجامعة التي تمثل كيانا وجوديا له أبعاده الحضارية المتكاملة ‏.‏

ومن هنا فلم يستطع الأغالبة الصمود أمام الفاطميين الذين برزوا في المغرب بقيادة داعيتهم أبي عبيد الله المهدي ‏.‏‏.‏ فسقطوا على يد الفاطميين هؤلاء سنة 296 هـ ‏.‏

لقد سقطوا ـ أولا وقبل كل شيء ـ باعتبارهم حركة انفصالية لا تستطيع أن تصمد أمام كيان حضاري زاحف له راية الأيديلوجية يقف تحتها ، مهما اختلفنا في أبعاد هذه الراية ‏.‏‏.‏ أو هذه الأيديلوجية ‏.‏

 سقوط دولة الخوارج في الجزائر

منذ خرج ‏"‏ الخوارج ‏"‏ عن طوع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتسببوا في قتله على يد عبد الرحمن بن ملجم ، وهم يشكلون على امتداد التاريخ الإسلامي المادة الخام لكثير من الحركات الثورية ‏.‏ لقد انتشر الخوارج على امتداد الأرض الإسلامية ولقد دخلوا في عديد من المعارك واجهوا في بعضها تصفية جسدية هائلة ‏.‏‏.‏ لكنهم مع كل ذلك ـ ظلوا شعلة ثورة في الأرض الإسلامية ، وشعارهم قول أحد روادهم ‏"‏ قطري بن الفجاءة ‏"‏ ‏:‏

فصبرا في مجال الموت صبرا ** فما نيل الخلود بمستطاع

سبيل الموت غاية كـل حـي ** فداعيه لأهل الأرض داع

وبالطبع لم يكن المغرب الإسلامي ، وهو تلك الأرض الإسلامية العذارء ليفلت من أيدي الخوارج ‏.‏

لقد حاولوا بكل الطرق أن يشكلوا على أرضه قوة إسلامية خارجية ينشرون من خلالها مبادئهم الخارجية ‏.‏

وقد كان أهم بروز لهم سنة 122 هـ في طنج برئاسة ‏"‏ ميسرة المطغري ‏"‏ ، وقد عرف المغرب من مذاهب الخوارج ‏:‏ الصفرية والإباضية ، وقد انتشرت الصفرية في الجهات الغربية ، بينما انتشرت الثانية في النواحي الشرقية ، وكانت أكثر القبائل البربرية ‏(‏ المغربية ‏)‏ الموالية للخوارج زناتة وهوارة ‏.‏

بيد أن حركاتهم ظلت حركات ثورية فوضوية ، لم يقدر لها إلى منتصف القرن الثاني الهجري أن تنتظم في دولة ‏.‏‏.‏ ولذا فمعظم حركاتهم ماتت وكانت تذوب في بوتقة المجتمعات المنظمة ، لا سيما وقد أصيبت كثير من حركاتهم بما أصيبت به الحركات التي تقف على الطرف الآخر منهم ‏.‏‏.‏ أي أنهم أصيبوا بكثير من المغالاة والتطرف ، والميل إلى نزعة التكفير وإراقة الدماء والقتل لأوهى الأسباب ‏.‏

لكن مع بروز سنة 144 هجرية بدا وكأن الخوارج يستمتعون بإقامة دولة مستقرة لهم بالمغرب ‏.‏

وقد نجح عبد الرحمن بن رستم الإباضي عبر سلسلة من المغامرات والتعرض للموت غير مرة ، والتحايل على جذب القبائل البربرية ‏.‏ نجح في إقامة دولة خارجية تعتمد على البربر وعلى العرب والعجم وتتمركز في مدينة جزائرية يفصلها عن الصحراء الجزائرية أكثر من مائتي كيلو متر ، وتقع في منطقة النجود ، وتتبوأ مكانا جيدا يحميها من الإغارات ، ويحميها كذلك من الشمس التي لا تكاد تظهر في سمائها ‏(‏ ‏!‏‏!‏‏)‏ وهي مدينة ‏"‏ تاهرت ‏"‏ ‏.‏

وقد نجح عبد الرحمن بن رستم هذا في توطيد دعائم دولته خلال الفترة التي قدر له أن يحكمها ‏(‏ 144 ـ 168 هـ ‏)‏ وقد خلفه من بعده ابنه عبد الوهاب الذي بقي في حكم الدولة التي تنسب إلى أبيه ‏"‏ الدولة الرستمية ‏"‏ عشرين سنة ‏.‏‏.‏ ثم ‏"‏ أفلح ابن عبد الوهاب ‏"‏ الذي عمر أطول مدة عمرها حاكم رستمي ، فقد بقي في الحكم أكثر من خمسين سنة ‏(‏ 188 ـ 238 هـ ‏)‏ ، ثم تتابع في حكم الدولة الرستمية خمسة من الأمراء ‏(‏ أبو بكر بن أفلح ‏.‏‏.‏ فأبو اليقظان ، فأبو حاتم ، فيعقوب بن أفلح ، فاليقظان ابن أبي اليقظان آخر أمرائهم ‏)‏ والذي لم يتمتع بالحكم أكثر من عامين عاشهما في اضطراب ، ثم غلبه على أمره الشيعة الروافض وقتلوه في شوال سنة 296 للهجرة ، وانتهت به الدولة الرستمية التي حكمت جزءا كبيرا من أرض الجزائر ‏"‏ تيهارت وما حولها ‏"‏ قرنا ونصف قرن من الزمان ‏(‏ 144 ـ 296 هـ ‏)‏ ‏(‏ وكان ظهورها الذي دعمه الرخاء الاقتصادي والاجتماعي أبرز مثل لبروز دولة خارجية ‏)‏ ‏.‏

إن الخوارج الذين اشتهروا بالحمية والتفاني في سبيل المبدأ ، قد تحولوا في ظل دولتهم الرستمية إلى رجال حكم ودولة أكثر منهم رجال عقيدة ودعوة ‏.‏

وقد عاشت طوائف كثيرة مختلفة النزعة في ظل دولتهم الرستمية حياة رغدة طيبة سهلة ‏.‏‏.‏ وبعد أن كان الخوارج أرباب سيف سقط السيف من يدهم منذ أبو بكر بن أفلح ، وقد رضوا بسلم يمكن لهم البقاء في حدود ما حول تاهرت ، عقدوه مع جيرانهم الأغالبة والأدارسة ‏.‏

وجلي أن الذي لا يتقدم يكون عرضة للتأخر ‏.‏‏.‏ وهكذا تأخر الرستميون بعد أن فقدوا روحهم النضالية ‏.‏‏.‏ ودعنا من انحرافات كثيرة منهم لدرجة المغالاة والتطرف ‏.‏‏.‏ ودعنا كذلك من سذاجة آخر ملوكهم ‏"‏ اليقظان ‏"‏ واضطراب الملك في يديه ‏.‏

لقد عمل ذلك عمله في سقوط الدولة الرستمية ‏.‏‏.‏ كما عمل في سقوطها كذلك أخطر قانون من قوانين الحضارة ‏.‏‏.‏ وهو أن الدولة التي تفتقد راية حضارية جديرة بالانتشار والبقاء ‏.‏‏.‏ دولة جديرة بالانحسار والفناء

 غروب الأدارسة في المغرب الأقصى

في تخوم السنوات التي تصل شطري القرن الثاني الهجري تفككت وحدة المغرب العربي ‏(‏ تونس ـ الجزائر ـ مراكش ‏)‏ وبدلا من خضوعه للدول الإسلامية الجامعة سواء دولة الأمويين أو دولة العباسية ‏.‏‏.‏ بدلا من هذا انقسم المغرب الإسلامي على نفسه إلى قوى ثلاث تحكمها زعامات ثلاث ‏.‏‏.‏ الرستميون في تيهارت ‏(‏ الجزائر ‏)‏ والأغالبة في تونس ، والأدارسة في المغرب الأقصى ‏.‏

وليس من السهل تلمس الأسباب الحقيقية لهذا الانفصال سوى أنه مطية لتحقيق أغراض شخصية ومذهبية ‏.‏

بيد أن كثيرا من المؤرخين لا يفوتهم البحث عن أسباب لكل الظواهر ، حتى ولو كانت الظاهرة مجردة حادث مفتعل يخلف نتائج مضادة ويكون حصاده وبالا على الأمة التي خضعت له ‏.‏

وليس من شك في أن الحياة ليست سلبا كلها ‏.‏‏.‏ وبالتالي ليست إيجابا كلها ‏.‏‏.‏ فنحن لن نعدم أن نجد في الدولة الحضارية الجماعية سلبيات ‏.‏‏.‏ كذلك لن نعدم أن نجد في كل الحركات الانفصالية التي تمثل ـ في رأينا ـ بوادر غروب للحضارة الجامعة ‏.‏‏.‏ لن نعدم أن نجد فيها إيجابيات ، بيد أنه لا السلبيات تصلح للحكم على الدولة الجامعة بالموت وبالانقضاض عليها من داخلها ، ولا الإيجابيات تصلح كمبرر للوجود ‏.‏‏.‏ إذا قيست هذه الإيجابيات الجزئية بما تخلفه حركات الانشقاق من هدم في روح الحضارة ‏.‏‏.‏ومن صراع يجهد الدولة الجامعة والبلد المنفصل معا ‏.‏

وكان إدريس بن عبد الله بن الحسين هو ‏(‏ قائد حركة الانفصال عن دولة العباسيين في المغرب الأقصى ‏)‏

وكان إدريس هذا قد ساهم مع إخوته ومع العلويين في إشعال ثورة الحجاز ضد العباسيين ، لكن الثورة فشلت ، وأخمدت فهرب إدريس إلى بلاد المغرب ، وهناك استطاع أن يجمع حوله بعض قبائل البربر ، وأن يكون له إمارة مستقلة دامت حوالي قرنين من الزمان ‏.‏‏.‏ وكان ذلك في مطلع القرن الثالث الهجري ‏.‏‏.‏ أي أن حركة إدريس كانت متأخرة عن حركتي الرستميين في الجزائر والأغالبة في تونس ‏.‏

وقد نجح الخليفة العباسي هارون الرشيد في أن يدس على إدريس من يدس له السم في العسل ، وكان الرشيد يضحك ويتندر بقوله ‏"‏ إن لله جنودا من عسل ‏"‏ لأنه سمه بواسطة العسل ‏.‏

وقد ترك إدريس زوجته حاملا فولدت بعد موته ذكرا التف البربر حوله وبايعوه باسم إدريس الثاني ‏.‏ وفي عهد إدريس الثاني هذا حاول العباسيون بواسطة ولاء الأغالبة الموجودين في تونس لهم ، حاولوا القضاء على الأدارسة ‏.‏‏.‏ لكنهم فشلوا ‏.‏‏.‏ وركن العباسيون إلى السكوت ‏.‏‏.‏ واستمرت الدولة الإدريسية ـ كما ذكرنا ـ قرنين من الزمان ‏.‏

وكان من أعظم حكام الأدارسة يحيى الرابع بن إدريس الذي حكم ثماني عشرة سنة ‏(‏ 292 ـ 310 هـ ‏)‏ وازدهر المغرب الأقصى في حكمه أيما ازدهار ‏.‏

كما بلغت مدينة فاس عاصمة الأدارسة ذروة مجدها ، وأصبحت مركزا هاما من مراكز الحضارة الإسلامية في أنحاء المغرب العربي ‏.‏ وأيضا قد ساعد الأدارسة على رسوخ قدم الإسلام في بلد المغرب بين البربر ، وانتشر الإسلام بواسطة البربر في أفريقيا الغربية ‏.‏

وكانت جامعة القرويين التي قامت بدور بارز في نشر وإنماء الثقافة الإسلامية من أهم آثار الأدارسة في المغرب الإسلامي ، وقد قامت في المغرب بما قام به الأزهر ـ أو على نحو قريب منه ـ في المشرق العربي ‏.‏

لقد كان الأدارسة أول دولة لها هذا الطابع في التاريخ وفيما نعتقد لم تكن دولتهم شيعية إلا بمقدار حب آل البيت والولاء لهم ‏.‏‏.‏ وهي صفة يشترك فيها السنة والشيعة معا ‏.‏‏.‏ فحب آل البيت من حب الرسول عليه الصلاة والسلام ما كانوا قائمين على كتاب الله وسنة رسوله ‏.‏‏.‏ أما إذا خالف أحدهم كتاب الله وسنة رسوله ‏.‏‏.‏‏.‏ فإنه يقف من الله موقف أي إنسان ‏"‏ يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا ‏"‏ هكذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام ‏!‏‏!‏ ‏.‏

ولهذا الوضوح في دولة الأدارسة أحبها أهل السنة وانتصرت بهم ، وكانت القبائل البربرية السنية في المغرب حاميتهم وعماد دولتهم ‏.‏

ولهذا السبب عاشت دولة الأدارسة نحوا من قرنين من الزمان وأدت دورا حضاريا لا بأس به في المغرب الإسلامي ‏.‏

بيد أنها كأية حركة انفصالية كانت تفتقد مبرر الوجود والبقاء ‏.‏‏.‏ فظلت على الرغم من ‏"‏ قرنيها ‏"‏ مجرد حركة انفصالية ‏.‏ ولم تستطع ـ لا جغرافيا ولا فكريا ـ أن تزيد على حدودها التي ضمها إدريس الأول شيئا ذا بال ‏.‏

وقد وقعت كذلك بين عديد من القوى الراغبة في الابتلاع ‏.‏‏.‏ وقعت بين الأمويين في الأندلس ، الذين كثيرا ما سددوا إليها الطعنات ‏.‏‏.‏ وبين مصر التي انتقلت إلى الفاطميين منذ سنة 359 هـ ‏.‏‏.‏ فوجهوا إلى الأدارسة طعنات كذلك على الرغم من القرابة المذهبية ‏.‏‏.‏

ولا يمكن إغفال ضربات القبائل البربرية الراغبة في حكم نفسها ، لا سيما قبائل زناتة وهوارة ‏.‏

وقد أدى ذلك كله على غروب شمس الأدارسة عام 375 هـ ‏.‏

فانتهت إحدى الحركات الانفصالية في تاريخنا الإسلامي ‏.‏‏.‏ لأن السقوط ـ وإن كثرت المقويات والمساعدات ـ هو مصير كل الحركات الانفصالية ‏.‏

 سقوط صقلية الإسلامية

بعد قرنين من فتح المسلمين لصقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات سنة 212 هـ كان كل شيء يؤذن بالأفول ‏.‏‏.‏ كانت الأندلس تعيش حالة ملوك الطوائف الذين تداعوا تداعي البيت المفكك أمام زحف المرابطين بقيادة رجلهم المؤمن رجل العقيدة والدولة يوسف بن تاشفين ‏.‏

وكانت الجزائر وتونس تعانيان من هجمة القبائل العربية الهمجية الزاحفة تدمر كل شيء دون تعقل ‏.‏

وكانت مصر قد ذهبت نضارتها على يد الفاطميين الذين كانوا قد فقدوا نضارتهم كذلك ، بل كانت مصر التي يحكمها الخليفة المستنصر تعاني من مجاعات غريبة لعلها لم تحدث في تاريخها بالمرة لدرجة أن الناس أكلوا بعضهم بعضا وبيعت لحوم الكلاب في الأسواق ‏.‏

كان هذا هو الجو المحيط بصقلية الأغلبية الإسلامية ‏.‏‏.‏ الجو الذي يطلق عليه مؤرخونا عبارة ‏"‏ الحالة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري‏"‏‏!‏‏!‏‏!‏

لكن كل هذا كان أقل من أن يقتطع غصن صقلية من شجرة الإسلام إلى اليوم ‏.‏‏.‏ لقد كان ثمة سبب آخر أشد وأقوى ‏.‏

كان هناك الهزيمة الداخلية التي هي الباب الوحيد التي تدلف منه كل الهزائم الواردة ‏.‏‏.‏ كان هناك لصوص المناصب وهواة الزعامات والمتمسحون في أمجادهم العائلية ‏.‏

كانت صقلية قد فقدت أمثال فاتحها العظيم أسد بن الفرات القاضي والفقيه والقائد والشهيد الذي استحق عن جدارة بطولة فتح صقلية ‏.‏

وحل جيل جديد تتنازعه التقاليد الوثنية النورمانية وينظر بإعجاب إلى الجنوب الأوروبي ، وإلى تقاليد العدو الواقف بالباب ‏.‏‏.‏ وعندما حلت الهزيمة الداخلية على هذا النحو ‏.‏‏.‏ كان من السهل أن يدخل روجار بجيوشه ، وأن تتحول صقلية إلى اليوم قلعة صليبية تكيد للإسلام ‏.‏

كان روجار قائد النورمان المستوطنين بالغرب الفرنسي والإيطالي يترقب فرصة الوثوب على الجزائر وتونس ‏.‏‏.‏ فضلا عن صقلية ، وكما هي العادة في تاريخنا لم يستطع روجار أن يدخل إلى صقلية إلا من خلال أهلها ، من خلال الهزيمة الداخلية ‏.‏‏.‏ فمبدأ الجهاد قد وقانا شر الأعداء الخارجيين ، أما حين تتفتت العقيدة وتنحل إرادة القتال يبدأ العدو في الولوج ممتطيا أحد الأصنام الباحثين عن الملك تحت أي شعار ‏.‏

وفي معركة من المعارك الداخلية بين لصوص الحكم هزم أحدهم ‏.‏‏.‏ ويسمى ابن الثمنة ‏.‏‏.‏ ولم يجد هذا الرجل غضاضة في أن يطلب الوصول إلى الحكم عن طريق الاستعانة بالنورمان المتحينين للفرصة فذهب إليهم يستعين بهم ويطلعهم على خفايا الجزيرة ، ويمدهم بالعون إذا هم حاولوا الاستيلاء عليها ‏.‏

وبدأ من يومها الغزو النورماني لصقلية ‏.‏‏.‏ ولم تكن القوى الإسلامية المفككة المحيطة بصقلية بقادرة قدرة حقيقية على عمل شيء ‏.‏‏.‏ بالرغم من أن تونس قد حاولت تقديم المساعدة ‏.‏

وتساقطت كأوراق الشجر في الخريف مدن الإسلام الزاهرة في هذه الجزيرة التي قدمت للإسلام والحضارة الإسلامية عديدا من الأبطال في كل المجالات ‏.‏

سقطت ‏"‏ مسنة ‏"‏ ‏.‏‏.‏ وسقطت ‏"‏ بلرم ‏"‏ العاصمة ‏.‏ ‏"‏ وماذر ‏"‏ ‏.‏

وبعد جهاد طويل من أحد شباب الإسلام الذين يظهرون كوهجة الشمس قبل المغيب ‏"‏ ابن عباد ‏"‏ سقطت سرقوسة ، ثم خرجت ولحقت بها ضريانة فنوطس ، وسجلت سنة 484 هـ 1091 م السقوط الكبير لصقلية في يد عصابات النورمان‏.‏‏.‏

وكما تمثلت الهزيمة الأولى ـ في بداية الهزيمة ـ ‏.‏‏.‏ كما قدمتها ـ في شخص ابن الثمنة ـ كذلك تمثلت الهزيمة هنا في صورتين ‏:‏

في صورة ابن حمود حاكم قصريانة إحدى المدن الصقلية التي سقطت وكان هذا الرجل يزعم النسب إلى العلويين ‏.‏‏.‏ لدرجة جعلت أحد المؤرخين الأوروبيين يصفه ‏(‏ بالعلوي الدنيء الرخيص ‏)‏ مسلما بقضية علويته ، ولربما كانت صحيحة ، فكثير من دعاة العلوية كانوا خونة ‏!‏‏!‏

وقد تواطأ الرجل مع روجار لدرجة جلبت عليه سخط المسلمين في الجزيرة كلها‏.‏

ولم ينته أمر هذا الخائن لأمته إلا بالنهاية الطبيعية ، إلا أنه حرصا على مزيد من الجاه لدى روجار أعلن نصرانيته وطلب من روجار أن ينقله إلى إيطاليا ليقضي بقية حياته هادئا آمنا ، وذهب الخائن ، ومع ذهاب الإسلام من أعماقه وأعماق أمثاله من المنهارين ذهبت صقلية ‏.‏‏.‏ والصورة الثانية ‏.‏‏.‏ تقدمها لنا صفحات التاريخ في شكل رسالة بعث بها المسمى الخليفة الفاطمي في مصر إلى روجار تحمل تشفيا وتهنئة بالنصر المسيحي ، وبعد أن يوافق خليفة المسلمين العظيم روجار على كل أوصافه للزعماء المسلمين في الجزيرة ، تلك التي وردت في رسالته وكيف أنهم جانبوا طريق الخبرات واجترءوا في الطغيان ، واستعملوا الظلم، وتمادوا في الغي ‏.‏

بعد ذلك ينهي رسالته بأن من كانت هذه حاله حقيق بأن تكون الرحمة نائية عنه ، خليق بأن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية ‏.‏

وهذا الكلام ‏.‏‏.‏ صحيح ‏.‏ بيد أنه لن يغفر للخليفة المنهار في مصر المتمسح ـ كذبا ـ في شرف النبوة أن يسقط ركن من أركان دولة الإسلام ـ تابعا لحكمه ـ دون أن يحرك ساكنا ‏.‏‏.‏ ثم يخرج علينا بشعارات منمقة لا قيمة لها ‏.‏

ولن يغفر له التاريخ كذلك أنه نفسه كان لعبة هزيلة في قصره بيد الوزراء العظام، وفي ظل أحط مجاعات عرفتها مصر الإسلامية ، وإنه بدوره كان حلقة في سلسلة مصائبنا الكثيرة ‏.‏

وقد زار ابن جبير الرحالة المسلم ـ صقلية ـ بعد سقوطها ـ فوصف أحوال أهلها تحت الحكم النصراني ، بما يجعلها قريبة من أحوال أهل الأندلس ، فقد ضربوا عليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام ، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض ، ولا جمعة لهم يؤدونها بسبب الخطبة المحظورة عليهم ، ويصلون الأعياد بخطبة يدعون فيها للعباس ، ولهم بها قاض وجامع ‏.‏‏.‏

ثم يختم ابن جبير حديثه عن أحوال المسلمين في صقلية بقوله ‏:‏

‏"‏ وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا في أبنائهم ‏.‏‏.‏ ‏"‏ ‏.‏

وكان هذا جزاء ما قدم زعماؤهم الخونة ، وسادتهم الفاطميون المارقون ‏.‏‏.‏

والمهم ‏:‏

سقطت صقلية الإسلامية ‏!‏‏!‏

 سقوط المرابطين بالمغرب

بدأت دولة المرابطين بالمغرب العربية بداية طيبة قوية ‏.‏‏.‏ كانت هذه الدولة بحق انبثاقة فكرة إسلامية عظيمة الأثر في حياة الدعوة الإسلامية ‏.‏‏.‏ هذه الفكرة تقوم على إبراز دور محدد قيادي للمسجد الإسلامي ، فالمسجد ليس مجرد دار لأداء صلوات خمس مبتوتة الصلة بالحياة ، وإنما المسجد الإسلامي دار تنطلق منها قيادة البشرية وتربيتها في كل مرافق الحياة ‏.‏‏.‏ فهو إلى جانب كونه دار عبادة هو كذلك دار علم ، وهو دار قضاء وهو مكتبة ، وهو مجلس شورى ‏.‏‏.‏ أي أن المسجد في الحقيقة نموذج لكل الوزارات والدواوين التي تقود شؤون الناس وتوجه مصالحهم ، وعلى هذا الأساس قامت فكرة الأربطة التي أنشأها المرابطون والتي من خلالها تكونت طليعة إسلامية استطاعت أن تنشئ دولة المرابطين التي حمت المغرب الإسلامي والأندلس قرابة قرن من الزمان ‏.‏

ومضت فترة القوة في هذه الدولة عندما مات أكبر شخصية مرابطة هي شخصية يوسف بن تاشفين على رأس المائة الخامسة ، وبالتحديد سنة 500 من الهجرة ‏.‏

وبعد يوسف ، ومع الجهود الضخمة التي بذلها خليفته وابنه علي بن يوسف بدأت دولة المرابطين تدخل طور الأفول ‏.‏

وكان ذلك بتأثير سبب قوي غريب ‏.‏‏.‏ كان ذلك لأن علي بن يوسف هذا قد انصرف عن شؤون الحكم إلى حد كبير ، ولم يتحرك إلا في مرات قليلة لم تكن كافية لسد الثغرات التي فتحت على الدولة في المغرب والأندلس ، وراح هذا الأمير المرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإهماله لشؤون دولته فهما مغلوطا للإسلام بل إنه وقع في خطأ كبير ‏.‏‏.‏ حين وقع تحت تأثير مجموعة كبار الفقهاء البارزين في دولته ، وكان لا يزيد عن كونه لعبة صغيرة في أيديهم ‏.‏

ونتيجة غفلة علي بن يوسف هذا ، وانصراف الفقهاء إلى تكفير الناس وجمع الثروات ، بدأت مظاهر التحلل تسود قطاعات كبيرة من الدولة ‏.‏

كانت الخمر تباع علنا في الأسواق ، وكان النبيذ يشرب دون حرج ، وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام ، واستولى أكابر المرابطين على إقطاعات كبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها ، واستولى النساء على الأحوال ‏"‏ وصارت كل امرأة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور ‏"‏ ‏.‏

وكان ثمة مظهر آخر من مظاهر الفساد انتشر على عهد الخلفاء الضعاف المرابطين ‏.‏‏.‏ هذا المظهر هو تحجب الرجال ، حتى إن الرجل لا تبدو منه إلا عينه ، وبروز النساء وظهورهن في الأسواق العامة سافرات ، واختلاطهن بالرجال ‏.‏ لكن مفتاح المصائب الكبرى على المرابطين كانوا هم الفقهاء

لقد ذهبوا إلى تكفير كل من يحاول تأييد القواعد والأصول الشرعية ، لا سيما العقائد بأدلة عقلية ‏.‏ وقد يكونون على خطأ أو على صواب ، فلسنا نعرض لآرائهم أو لآراء غيرهم ، وإنما الذي نقصده أن نظرية التكفير هي دلالة إفلاس وتحجر ، وليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر ‏.‏‏.‏ إذ ليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر ‏.‏‏.‏ إذ ليس الكفر مفتاحا يملكه الناس ما لم تظهر أدلته المادية التي لا تقبل الشك ‏.‏‏.‏ أما الخلاف على رأي فليس مجال تكفير‏.‏

وقد ذهب هؤلاء الفقهاء في استرسالهم التكفيري هذا إلى تكفير أعظم شخصية إسلامية أنجبها القرن الخامس والسادس الهجري ‏.‏‏.‏ وهي شخصية الإمام ‏"‏ أبي حامد الغزالي ‏"‏ المعروف بحجة الإسلام بل إنهم ذهبوا في غلوائهم أبعد مذهب ، فحرصا على امتيازاتهم التي يكتسبونها من جدلياتهم في علوم الفقه التي تمثل الفروع ‏.‏‏.‏ أفتوا بإحراق كتب الإمام الغزالي لا سيما كتابه الشهير ‏"‏ إحياء علوم الدين ‏"‏ وكانت حجتهم في ذلك اشتمال الكتاب على بعض المسائل الفلسفية الكلامية ‏.‏‏.‏ مما اضطر السلطان علي بن يوسف الخاضع لتأثيرهم إلى إصدار أمره بوجوب إحراق الكتاب ‏"‏ إحياء علوم الدين ‏"‏ في جميع أنحاء مملكته تنفيذا لفتوى الفقهاء ، ثم أنذر بالوعيد الشديد ‏.‏‏.‏‏.‏ بل بالقتل واستلاب مال كل من يوجد عنده الكتاب ‏!‏‏!‏ ‏.‏

وكان هذا الحادث أبرز ألوان الجمود والتحجر والخوف على الامتيازات الشخصية التي أظهرها الفقهاء ‏.‏

وقد بلغ الحنق بالإمام الغزالي مبلغه ، فدعا على علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي أن يمزق الله ملكه ‏.‏‏.‏ حين علم بالأمر ‏!‏ ‏.‏

لقد كان منهج الفقه الذين تصدروا شؤون الدولة المرابطية يقوم على الابتعاد عن المصدرين الرئيسيين للتشريع وهما القرآن والسنة ، والتمسك الشديد بآراء الفقهاء ‏.‏‏.‏ حتى ولو لم يعرفوا لها سندا من الكتاب والسنة ‏.‏‏.‏ وقد بلغ الأمر بهم في هذا الأمر مبلغه ، حتى أن أحد الناس قال لرجل وهما في الطريق ‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا ‏.‏‏.‏ فرد عليه الآخر ‏.‏‏.‏ لكني أعتقد أن الإمام مالكا يقول كذا ‏(‏ ‏!‏‏!‏ ‏)‏ وهكذا ذهبت آراء الفقهاء في نظرهم مذهب التقديس والغلو المبالغ فيه ‏.‏

وقد أمات الفقهاء واجب ‏"‏ الحسبة ‏"‏ ‏.‏‏.‏ وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم يقوموا بتغيير نواحي التحلل التي ظهرت في الدولة ، وكان بإمكانهم لتمكنهم من الحكم أن يقوموا على تغييرها ‏.‏‏.‏ لكنهم جاروا العامة في غرائزها وبحثوا عن أنفسهم ، بل قاوموا المخلصين الذين حاولوا التغيير ورموهم بالتكفير والمروق ‏.‏

بقي أن نقول ‏:‏ إن الفقيه أبا القاسم بن حمدين زعيم الفقهاء في هذه الفوضى ‏.‏‏.‏ وأكبر المكفرين للإمام الغزالي ، بل المكفر لكل من قرأ كتاب الإحياء كان يمثل نموذجا لكثير من الدجالين المتاجرين بالإسلام ، والإسلام منهم براء ‏.‏

ومع ألسنة النار المندلعة من نسخ كتاب الإحياء التي أحرقت في مشهد علي بجامع قرطبة ، كانت ألسنة نيران حركة التاريخ التي تقودها سنة الله التي لا تتخلف ، تأكل دولة المرابطين التي تركت أمرها لمجموعة من ضيقي الأفق ومرتزقة الكلمة ، هؤلاء الذين لا يفهمون أصول الإسلام ولا روح الإسلام ‏.‏‏.‏ ولا أصول الحكم في الإسلام ‏.‏‏.‏ ولا روح الحكومة الإسلامية الحقيقية ‏.‏‏.‏‏.‏

 سقوط دولة صنهاجة في تونس

عندما رحل الفاطميون إلى مصر سنة 360 هـ ، بعد أن أسسوا دولتهم بالمغرب العربي وعاشوا فيها أكثر من نصف قرن ، خلفوا وراءهم قبيلة بربرية كبرى تدعى صنهاجة كي تحكم المغرب العربي ‏(‏ تونس والجزائر ‏)‏ نيابة عنهم وباسمهم‏.‏

لقد كان انتقال الفاطميين إلى مصر وتسليمهم الأمور لهذه القبيلة البربرية الكبرى حدا فاصلا في أحداث المغرب العربي ، إذ كان إعلانا ببداية عهد يحكم فيه البربر أنفسهم ويستقلون بحكم بلادهم ، في ظل اعتراف بسلطة الدولة الفاطمية وهو اعتراف من النوع الذي يمكن نقضه ، لأنه لا تساعده قوى متمركزة عسكرية، ولا ولاء جماهيري عقائدي ، وبالتالي فقد اعتبر هذا الحدث بداية عهد ‏"‏ حكم البربر للبربر ‏"‏ ‏!‏‏!‏ ‏.‏

وقد نشأت بعد رحيل الفاطميين أول دولة بربرية كبرى في الجزائر وتونس هي ‏"‏ دولة الصنهاجيين ‏"‏ التي عرفت باسم ‏"‏ دولة بني زيري ‏"‏ نسبة إلى أول حكامها ‏"‏ بلكين بن زيري الصنهاجي ‏"‏ ، وقد نجح بلكين هذا في أن يقضي على الفتن الداخلية وعلى الثورات القبائلية المجاورة على حدود البلاد ، وحقق استقرارا كبيرا بالبلاد إلى أن مات سنة 373 هـ ‏(‏ 984م ‏)‏ فخلفه ابنه المنصور بن بلكين ، وكان من أعدل بني زيري ، فاستعمل السياسة والعنف معا ، ونجح في تصفية خصومه باللين والحكمة والترهيب كذلك ‏.‏

وقد لمس الفاطميون النية لدى حكام بني زيري في الاستقلال ، فحاولوا وضع العراقيل في وجه المنصور ، إلا أن سياسته قد امتصت محاولاتهم ‏.‏

وعندما مات سنة 387 هـ خلفه ابنه باديس بن المنصور فسار على سياسة أبيه ، ونجح في تحقيق الاستقرار للدولة ‏.‏ حتى مات سنة 406 هجرية ‏(‏ 1015م ‏)‏ ‏.‏

لقد تولى الأمر بعد باديس أعظم ملوك بني زيري على الإطلاق ‏"‏ المعز بن باديس ‏"‏ ولقد واجه المعز بن باديس وضعين جديدين كان لهما تأثير كبير في مستقبل الدولة ‏:‏ أما الوضع الأول ‏.‏‏.‏‏.‏ فهو قيام حركة انشقاق في الدولة قادها أحد أعمام أبيه ويدعى ‏"‏ حمادا ‏"‏ وكانت قد بدأت منذ عهد أبيه واستنفذت من طاقة أبيه الكثير‏!‏‏!‏ وأما الوضع الثاني فهو ميول المعز نفسه ، إذا كان المعز قد تربى على يد رجال من رجالات السنة المالكية ، ونشأ محبا للمالكية والسنة ‏.‏ وقد حاول منذ ولي تغيير مذهب الدولة ، ففي سنة 407 تغاضي ، بل أوعز بطريقة غير مباشرة، بقتل عدد كبير من مخالفي السنة والجماعة في مذبحة كبيرة ‏.‏

لقد كان ابن باديس واقعيا مع ظروفه وظروف دولته ، وبالتالي فقد قبل انشقاق جزء من دولته في ظل سيادته ، هذا في الجانب الأول ‏.‏

وفي الجانب الثاني كان واقعيا مع ظروفه كذلك ، فتمهل في الأمور ، ولم يقم بتغيير المذهب الشيعي ، حيث كانت دولة الفاطميين في القاهرة قوية تستطيع تأليب القوى عليه من داخل بلاده وخارجها ‏.‏

ولقد عاش المعز يحكم دولته في هدوء ، قريبا من خمس وثلاثين سنة ، أي إلى سنة 441 هـ ‏.‏‏.‏ وفي السنة الأخيرة التي كان حاكم الدولة الفاطمية فيها هو المستنصر ، أعلن انفصاله عن دولة الفاطميين ، إذ كان المستنصر يعاني من تدهور كبير في الأوضاع ، وكان المعز يعيش فترة تألق شديد ‏.‏

لكن الفاطميين في مصر لم يستسلموا للضربة التي سددها إليهم المعز ، وهم في الوقت نفسه ، كانوا عاجزين عن توجيه ضربة مقابلة له ، خضوعا لظروفهم التي كانت تجنح إلى التدني والسقوط والأزمات الاقتصادية الشديدة ‏.‏

ولم يعدم المستنصر الفاطمي ـ أطول خلفاء الإسلام بقاء في الحكم وسيلة يضرب بها المعز ‏.‏

وكانت الوسيلة التي رآها هي إطلاق القبائل العربية ‏"‏ الهلالية ‏"‏ كي تزحف على المغرب العربي ، وقد استدعى رؤساءهم وأقنعهم بمحاولة امتلاك المغرب وأرسل إلى المعز خطابا بذلك ‏.‏

وكانت هذه القبائل حجازية استوطنت مصر ، وتعيش بطريقة شبه فوضوية ، وقد تقدمت نحو المغرب في أعداد كبيرة يبالغ بعض المؤرخين فيزعمون أنها تتجاوز المليون ‏.‏

لقد أتيح للمعز بن باديس فرصة ترويض هذه القبائل ولكنه لم يوفق إلى هذا النهج وكانت هذه أكبر أخطائه ‏.‏ وبالتالي فقد تقدمت هذه القبائل تهلك الحرث والنسل وتخرب المدن والقرى ، حتى قضت على حضارة القيروان العظيمة ‏.‏

كما أن المعز لم يوفق في إعلان مواجهة حضارية في مقابل غزوة حضارية ولقد كانت وشيجة الإسلام كفيلة بترويض هذه القبائل وباستغلالها ، وبالتالي بإحباط الهدف الذي سعى إليه المستنصر ، في إيثار الجماعة والسنة ‏.‏

وعندما يفشل المغزوون حضاريا في إحداث غزو حضاري مضاد ـ لا سيما وأن هذه القبائل كانت تجنح إلى ما جنح إليه المغرب العربي ـ يفقدون عنصر القدرة على البقاء ‏.‏

إن الغزو الحضاري لا يقاوم بمجرد المقاومة ، بل لا بد من امتصاصه بغزو حضاري مضاد ‏.‏

وهذه القاعدة قد غابت عن ذهن بني زيري في تونس ، فتهاووا وتهاوت حضارتهم، وللأسف الشديد فإن هذه القاعدة لا تزال غائبة عن ذهن كثير من المخدوعين والمهزومين ‏.‏

 وسقوط بني حماد في الجزائر

لا يلد الانفصال إلا انفصالا ، والسير ضد سنة الله محاولة انتحارية ومن سمات حركة التطور البشري أن الروح العامة تؤدي دورا مهما في عملية السير التاريخي ‏.‏

فإذا كانت الروح العامة متجهة إلى الخير تسابق الناس إلى الخير ، وهكذا تقدمت حركات الإصلاح ، وهكذا استقطبت أجيالا في أيامها ، والأمر نفسه ينطبق على الشر ، ولم تمت الأمم إلا بالروح الشريرة العامة التي جعلت التحلل ‏"‏ مودة ‏"‏ والتفسخ الخلقي ‏"‏ فضيلة ‏"‏ ، والسقوط تقدمية ‏.‏‏.‏ وهكذا تحللت الأمة الإسلامية في فترات تداعيها ‏.‏‏.‏ فمن انفصال إلى خلافات كبرى ثلاث ‏(‏ عباسية ببغداد ، أموية بالأندلس ، فاطمية في مصر ‏)‏ وإلى انفصال آخر في الأندلس بين ملوك الطوائف، وفي المشرق بين الشام ومصر واليمن ، وهكذا ، وفي المغرب العربي بين بني زيري في تونس وزناتة ثم المرابطين في المغرب الأقصى ، وبني حماد في الجزائر ‏.‏

ولقد كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري ‏"‏ الحادي عشر الميلادي ‏"‏ مسرحا لمعارك طويلة دارت بين بني زيري الذين يحكمون تونس ، وبني حماد الذين أحبوا تكوين إمارة مستقلة بهم في الجزائر ، بعد أن كان بنو زيري يحكمون تونس والجزائر معا ‏.‏

وعبر حروب طويلة خاضها حماد مؤسس الدولة مع بني زيري في ناحية ‏.‏‏.‏ ومع زناتة في المغرب الأقصى من ناحية أخرى ، عبر هذه الحروب استطاع حماد بمساعدة ظروف كثيرة منها عنصر المصادفة ‏.‏‏.‏‏.‏ أن يستقل بجزء كبير من أرض الجزائر الإسلامية وكان ذلك سنة 408 هـ ‏(‏ 1016م ‏)‏ حين نجح في عقد صلح مع المعز بن باديس حاكم تونس - ‏(‏ 405 ـ 454م ‏)‏ وأصبح الرجل الأول في الجزائر ‏.‏

ولقد عاشت هذه الدولة قريبا من مائة وأربعين سنة وتعاور الحكم فيها تسعة من الملوك كان من أشهرهم حماد نفسه ‏(‏ 408 ـ 419 هـ ‏)‏ والقائد بن حماد ‏(‏408ـ 466 هـ ‏)‏ والناصر بن علناس ‏(‏ 454 ـ 481 هـ ‏)‏ والمنصور بن الناصر ‏(‏ 481 ـ 498 هـ ‏)‏ ‏.‏

إلى أن وصل الحكم ليحيى بن العزيز الذي حكم ما بين ‏(‏ 515 ـ 547 هـ ‏)‏ فكان سلوكه ومجموعة ظروف أخرى من أسباب سقوط الدولة على يد الموحدين سنة 547 هـ 1152م ‏.‏

لقد كانت دولة بني حماد انفصالا من انفصال ‏.‏‏.‏ وسارت في طريقها فكان طريقها على امتداده زاخرا بالمشاكل ، وعلى امتداد هذا التاريخ كانت الحروب شبه دائمة بين الحماديين وقبيلة زناتة وبني زيري ‏.‏

مضافا إلى ذلك أن هذه الدولة لم تكن لها أهداف محددة ، اللهم إلا هدف البقاء والسيطرة ‏.‏

وكان كثير من ملوكها يمتازون بالقسوة الشديدة ، بل إن مؤسسها حمادا نفسه استعمل أسلوب الدم كي يبني دعائم دولته ‏.‏

ولقد دمر مدنا وقرى أمنت لعهده ووثقت في كلماته ، وكان مكروها من جنوده ، وقد تتابع هذا النهج في كثير من أحفاده كبلقين بن محمد ، وباديس ، وبعض أيام يحيى آخر الأمراء ‏.‏

لقد كان يحيى بن عبد العزيز ‏(‏ آخر الأمراء الحماديين ‏)‏ عابثا لاهيا ، وربما كان لهوه ومجونه هذا هو السبب المباشر لسقوط الدولة ‏.‏

وأيضا من المحتمل أن بروز قوة كبرى في المغرب وهي قوة دولة الموحدين بقيادة محمد بن تومرت ثم خليفته ‏"‏ عبد المؤمن بن علي ‏"‏ يحتمل أن يكون هذا كذلك هو السبب المباشر في السقوط ‏.‏‏.‏ لكن مع ذلك يبقى أن كل هذا لم يكن إلا المرحلة الأخيرة في السقوط وهي تلك المرحلة التي تركبها عجلات التاريخ لتقفز بها قفزتها الأخيرة ‏.‏‏.‏ أما الأسباب الحقيقية لسقوط الدولة فتتلخص في سياسة الدولة الخارجية التي كانت أكبر عار في تاريخها وأكبر لطمة في وجهتها إلى نفسها ‏.‏

فلقد انتهجت هذه الدولة نهجا سياسيا ذاتيا يعتمد على البحث عن النفس حتى ولو سقط العالم الإسلامي كله ‏.‏

وسقطت تكريت ، وسقطت رودس ، وسقطت صقلية وعاصمتها العظيمة ‏"‏ بلرم ‏"‏، وسقطت المهدية عاصمة أبناء عمومتهم في تونس ‏.‏

سقط كل هذا فلم تتحرك عواطف زعماء هذه الدولة ، بل إنهم كانوا يعقدون معاهدات صداقة مع المسيحيين ‏.‏ ظنا منهم أن للصليبيين عهدا أو شرفا أو أمانة ، وناسين قوله تعالى ‏"‏ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ‏"‏ ‏.‏

ولقد أثبت لهم الصليبيون صدق منطق القرآن فهاجموهم بالرغم من معاهداتهم معهم سنة 524 هـ وهاجموهم في المهدية سنة 529 هـ ‏.‏

وسقطت دولة الحماديين ، لأن كلمة التاريخ التي هي جزء من سنة الله تقول ‏:‏

إن الدول كالأفراد ، تتآكل بالتدريج ما لم تبحث عن شملها المبعثر ، أو كما يقول المثل العربي الصادق ‏:‏ ‏"‏ إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض ‏"‏ ‏.‏

وسقطت دولة الحماديين سنة 547 هـ على يد قوة إسلامية جديدة ‏.‏

 والموحدون ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ يسقطون

إنك تستطيع أن تنتصر في معركة ، وأن تقهر عدوك وأن تحكم بالموت على مدينة بريئة ، وقد يكون ذلك انتصارا لك ويمد التاريخ في عمرك عدة سنوات ‏!‏‏!‏‏.‏

لكن ‏.‏‏.‏ أن تصنع حضارة وأن تبني دولة تبقى ‏.‏‏.‏ أن تمد التاريخ بصناع مبدعين ‏.‏‏.‏ أن تفعل ذلك وأكثر منه ، فهناك طريق آخر ‏.‏‏.‏ طريق ليس ‏"‏ الدم ‏"‏ من معالمه، بل هو أبرز صخوره وعوائقه ‏.‏

هذه حقيقة من حقائق الحضارة أكثر منها حقيقة من حقائق التاريخ ‏!‏‏!‏ ‏.‏

لكن هذه الحقيقة غابت عن بناة دولة الموحدين التي قامت في المغرب والأندلس قرابة قرن ونصف القرن ‏(‏ 524 ـ 668 هـ ‏)‏ ‏.‏

ومنذ تأسيس هذه الدولة سواء فكريا ‏"‏ أيديلوجيا ‏"‏ على يد زعيمها الروحي ‏"‏ محمد بن تومرت ‏"‏ أو زعيمها السياسي والعسكري ‏"‏ عبد المؤمن بن علي ‏"‏ وأسلوب الدم هو أبرز الأساليب التي اعتمدت عليها هذه الدولة في إرساء دعائمها ‏.‏

لقد كانت دولة المرابطين هي أبرز الدول التي قامت على أنقاضها هذه الدولة الموحدية ‏.‏ وقد استعمل الموحدون أقسى الوسائل الدموية في تصفية دولة المرابطين التي لم تكن أكثر من دولة مسلمة ، مهما قيل عن حكامها الأخيرين ، وقد أخذوا الناس بجرائر الحكام وقتلوا مع المحاربين والنساء والشيوخ ، وحكموا على مدن بأكملها بالموت ‏.‏‏.‏ هكذا فعلوا في ‏"‏ وهران ‏"‏ فقد قتل الموحدون فيها كل من وجدوهم مع المرابطين ، وعندما التجأت جماعات مرابطية على حصن من الحصون قطع الموحدون عنهم الماء فلجأ المرابطون إلى التسليم بعد ثلاثة أيام ، ومع أنهم استسلموا فقد قتلهم الموحدون كبارا وصغارا ، وكان ذلك يوم عيد الفطر من سنة 539 هـ ‏!‏‏!‏ ‏.‏

والشيء نفسه أو قريب منه قام به الموحدون عند استيلائهم على مدينة ‏"‏ مراكش‏"‏، فعندما سقطت المدينة بعد مقاومة رائعة ودفاع مستميت قتل الموحدون من أبناء المدينة من الجنود والمدنيين على حد سواء نيفا وسبعين ألف رجل ، ولم يكتفوا بهذا العدد من الرجال ، بل إنهم استباحوا المدينة ثلاثة أيام فاستحر برجالها القتل الذريع هذه الأيام الثلاثة الكئيبة ، لم ينج من أهلها إلا من استطاع الاختفاء في سرب أو غيره ، وقد قيل إنه عند الانتهاء الأيام الثلاثة وإعلان العفو عن الباقين من الأحياء من أهلها لم يظهر حيا إلا سبعون رجلا ‏!‏‏!‏ وباعهم الموحدون بين أسارى المشركين ‏.‏

وهكذا كانت البداية الثورية العنيفة الخاطئة لدولة الموحدين التي نجحت في إنقاذ الأندلس في موقعة ‏"‏ الأرك ‏"‏ سنة 591 هجرية من التداعي وقامت على نحو ناجح بتوحيد المغرب العربي والأندلس ‏.‏‏.‏ ومع ذلك بقيت لعنة ‏"‏ الدم ‏"‏ وراءها لقد بقي قانون الله يطالب بالقصاص العادل ، قوانين الله أكبر من أن يحيط بها هذا الإنسان المحدود التصور والرؤية ، لقد قضى الله بعقوبة هذه الدولة من داخلها ، لقد تحول أسلوب ‏"‏ الدم ‏"‏ إلى وسيلة داخلية قتل بها الموحدون بعضهم بعضا ‏.‏‏.‏ وخضعوا ـ بذلك ـ لقانون الله الذي لا يتخلف ‏.‏

ولم يمر على انتصار الموحدين الخالد في موقعة الأرك أكثر من ثمانية عشر عاما حتى انتكس الموحدون نكستهم التي كانت من أسباب تحطيم الوجود الإسلامي في الأندلس كلها ، وكان ذلك سنة 609 هجرية حين هزموا شر هزيمة في ‏"‏ العقاب ‏"‏ التي أبيدت فيها جيوش الموحدين، وسحق نفوذهم في الأندلس من جرائها ، ومنذ هذا الوقت وصرح الموحدين يتداعى تحت ضربات ‏"‏ الدم ‏"‏ وعلى امتداد خمسين سنة ‏(‏ 609 ـ 668 هـ ‏)‏ والموحدون يقضون على أنفسهم بأيديهم في معارك أهلية داخلية ‏.‏‏.‏ فالمأمون ‏"‏ الخليفة ‏"‏ الموحدي العاشر ـ والرشيد ‏"‏ الحادي عشر ‏"‏ ويحيى المعتصم ‏"‏ التاسع ‏"‏ ويوسف المنتصر ‏"‏ الخامس ‏"‏ وغيرهم قد استنفدت قواهم في قتال داخلي أباد كثيرا من عناصر الموحدين بل إن جهاز الدولة ، والعناصر الثائرة فيها قد تولت هي قتل الخلفاء في الآونة الأخيرة ‏.‏‏.‏ فتم قتل الخليفة الموحدي ‏"‏ أبي محمد ، عبد الواحد الرشيد ‏"‏ والخليفة العادل ‏"‏ ، بل إن الخليفة المأمون قتل أشياخ الموحدين الذين خالفوه ، وكانوا أكثر من مائة ، فقضى بهذا الأسلوب الدموي على خلاصة الزعامة الموحدية ‏.‏

ومن خلف مسيرة الدم والعنف بقي قانون الله في القصاص عبرة للذين يعتبرون ، فالدم هو طريق الدم ‏.‏‏.‏ أما الذين يحاولون صنع الإنسان أو صنع حضارة فلهم طريق آخر ‏.‏‏.‏ طريق آخر كريم ونظيف ‏.‏